أولاً، ينبغي التأكيد أن الحل السياسي في سوريا والحديث عنه اليوم نابع من ضرورة وأمر واقع، ومن استعصاء في الحالة السورية بات واضحاً للجميع. وهو، كما نفترض في الحل الناجع، ليس ذلك الحل السياسي الذي كانت تهرول له بعض فصائل "المعارضة" منذ الشهر الأول للثورة السورية، "تحت سقف الوطن" بما يعنيه سقف الوطن بالنسبة لها من تماهي مع الحذاء العسكري للنظام ورئيسه. هكذا، وفي ظل عجز أي من الطرفين عن الحسم العسكري لصالحه بعد أربعة أعوام، وبعد أشهر مديدة من التعفن والتفسخ في النسيج الاجتماعي والطائفي والجهوي في سوريا، كان لعسكر الطرفين، المعارضة والنظام، دور واضح فيه في مناطق سيطرة كل منهما، ومعهما فصائل جهادية لا تحسب على أي من الطرفين... صارت واضحة استحالة تحقيق التغيير الجذري الذي قامت الثورة وامتدت لأجل تحقيقه.
هذا، على أي حال، ليس انتصاراً وتعزيزاً لرواية النظام، كما أنه ليس انتقاصاً من مطالب المعارضة الجذرية في إسقاطه إسقاطاً كاملاً، على علّات هذه المعارضة وتشبهها بالنظام أحياناً في ممارساتها وفسادها وغير ذلك. إنه انعكاس للانسداد حاصل على الأرض في موازين القوى بين الطرفين المتصارعين. امتناع واستحالة إسقاطه لا تعني أحقيته في البقاء حتى لو اتفق العالم على بقاءه وفقاً لــ "حل سياسي"، وهو ما يبدو واضحاً حتى الآن: الأسد شريك في أي مرحلة مقبلة.
وبناء عليه، وجدت مطالب المجتمع الدولي المعني بالقضية السورية، وإن كلامياً، أذناً صاغية أخيراً لدى الطرفين بغض النظر عن رؤية كل منهما للحل السياسي وفحواه، وبغض النظر أيضاً عن مدى جدية هذا المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة الامريكية، في فرض هذا الحل السياسي.
وإذ نتحدث عن "فرض" لهذا الحل، فإن هذا يحيلنا أولاً إلى التذكير أن الحل خرج من أيدي السوريين منذ فترة طويلة، نظامهم ومعارضتهم، وبأن آفاق هذا الحل تبدو شبه معدومة في المستقبل المنظور تبعاً لسياسة الولايات المتحدة والمنظومة الأوربية وطريقة تعاملها مع الملف السوري، وخاصة بعد بدء عمليات قوات التحالف الدولي ضد داعش، ومن بعدها مبادرة المبعوث الدولي دي ميستورا. هذا يحيلنا إلى محور هذا الملف الذي يشارك فيه هذا النص، ألا وهو احتمالات الحل السياسي في سوريا وفقاً لأطروحة الورقة التي قدمها "معهد كارتر"، وهي أيضاً حصيلة نقاشات مع ناشطين وسياسيين وحقوقيين سوريين.
بدءاً، لا يجوز التقليل من الجهد الحقوقي النظري الذي تضمنته هذه الورقة والتي يبدو من خلال سردها وتراتب أفكارها، أنها ستكون، لوهلة، مفتاح الحل في سوريا إن هي طبقت. جهد حقوقي كبير بُذل لإنجازها من أناس يشكرون على هذا الجهد بقدر ما يُسألون عن حالة انفصالهم عن الواقع السوري فيما تختزنه هذه الورقة.
لا بد من حل سياسي في النهاية، ولا بد من أن تضع الحرب السورية أوزارها.غير أن الورقة تنظر في النهاية إلى الواقع السوري بصفته صراعاً بين طرفين على ذات السوية في المواصفات وفي كل شيء، يكفي أن يجلسا معاً على طاولة حوار لكي ينتهي الأمر برومانسية وحنان ومشاعر عطف يتبادلها المتحاورون مع سائر السوريين، بحيث لا يبقى إلا أن يتبادل السوريون التهاني بالحل السياسي الذي اجترحه سوريون آخرون، تحاول الورقة إياها أن تضع الكرة في ملعبهم دون ذكر دور مهم وضاغط لدور المجتمع الدولي في الموضوع، ودون ذكر لمسؤولية المجتمع الدولي عما وصلت سوريا إليه اليوم، الأمر الذي يغيّب تحالفات وتموضعات كل من النظام والمعارضة لصالح قوى إقليمية ودولية. النظام على أي حال حليف حقيقي لــ "محوره" الذي لا يبخل عليه بالدعم العسكري والمالي والبشري بعكس المعارضة التي لم يستحوذ منذ أربع سنوات وحتى اليوم، سوى الوعود.
يقف المرء كثيراً عند الشكليات التي قدمتها الورقة بشكل أنيق وتسلسل وترتيب تحيل القارئ والكاتب إلى أن المشكلة هي أولاً " دستورية قانونية" وليست مشكلة سلطة وآليات سلطوية في إدارة البلاد بدءاً من دور الأسد شخصياً في خلق المأساة، وهو الشريك في الحل كما هو واضح حتى الآن، وانتهاء بقتله من عارض أو اعتصم أو أغاث أو ساعد أو تظاهر وغير ذلك، بوسائل إبادة جماعية لم تمر بها الورقة، واعتبرت مرتكبها شريكاً في الحل على ما يبدو في كلام ضبابي عن الحكومة المفترض أن تتمخض عن بيان جنيف1، وفي صلاحيات ودور رئيس الجمهورية.
لا يُنتظر، طبعاً، من معهد غربي أن ينظر إلى المأساة السورية بعين سورية كما ينظر أبناء البلاد إلى مأساة بلدهم، لكن كان مطلوباً منهم على الأقل أن يوصّفوا الواقع السوري بتسلسل المسؤوليات عنه ومسؤولية كل طرف من الأطراف عن التردي والقاع الذي وصلت إليه بلادنا، لا أن تكون فقط عبارة عن تلميع قانوني لتصريحات الغرب والولايات المتحدة الامريكية، وجعلها الموقف الغربي الصامت والمتفرج مقونناً بآليات دستورية وأفكار حول انتقال سياسي قدمتها الورقة لتطبق في أي مكان إلا في سوريا، وتلك مسألة يسأل عليها، أخلاقياً، من شارك في صياغتها أو إعدادها أو في النقاش حولها بهذا الرأي من السوريين أولاً، بدرجة كبيرة.
وخارج موضوع مضمون الورقة، وعلى علاقة بها في مكان ما، يبقى مفيداً القول أن المصالحة المأمولة من قبلنا كسوريين، تبقى مستحيلة بقرار سياسي أو بورقة أو حتى بضغط دولي لإنجاز الحل السياسي، ذاك أن ما أفسده العطارون الكثر في أربع سنوات، وقبلها في أربعين سنة، لن تصلحها طاولة مستديرة أو مربعة أو ورقة أو تفاهمات تبقى ضرورية لبداية طريق الحل السياسي المنشود الذي يوقف الحرب.
الدخول في المصالحات ورأب الصدع الذي حصل، مرتبط بالذاكرة السورية التي تشكلت مع الموت والاعتقال والموت تحت التعذيب والتدمير وغير تلك من ممارسات النظام السوري، قبل أن نفكر بمسؤولية كل الأطراف الأخرى التي تشبهت به، وهي لم تتشبه به أساساً إلا لأنه "القدوة الحسنى" في تلك الممارسات.
وإلى أن يتم الحديث عن المصالحات وعمل الذاكرة في نفوس وقلوب السوريين، في مرحلة ما بعد الحل السياسي الذي لا يبدو قريباً، ستتسع الرفوف لورقة معهد كارتر ولمعدّيها ومن ناقشها ومن ساهم في النقاشات حولها من السوريين، ولأوراق ومبادرات أخرى ليست مبادرة دي ميستورا والمبادرة الروسية الأخيرة إلا جزءاً منها. أن يكون معاذ الخطيب رئيساً للحكومة بوجود بشار الأسد رئيساً لن ينهي المأساة، حتى لو اتفقت كل الأطراف على ذلك، وربما تتفق.
على كل حال، الإيغال في الموت السوري والصمت عنه يتطلب مبادرات وتبريرات وأوراق وإلقاء المسؤولية على عاتق الضحية بمساواتها مع الجلاد/ الجلادين، وما أكثرهم. أما الزمن السوري الطويل الذي استحال الواقع معه تفسخاً وانقساماً، فمسألة خارج كل الحسابات والمسؤوليات على ما يبدو.